خلال أحد عروضه الأدائية، ظهر عبد الناصر غارِم حاملاً شجرة وملفوفاً معها بالكامل داخل غلاف شفّاف من البلاستيك وسط أحد الشوارع المزدحمة في السعودية، مما سبب تساؤلاتٍ عديدة من قبل الناس ومن ضمنهم والده الذي أعتقد أنه مجنون. يضحك متذكّراً هذه القصة خلال حوارنا معه في استديو غارم ويقول: “ذهب الناس إلى والدي وأخبروه بأنني لست على ما يُرام.” فصرخ والدي عندما رآني: “ماذا تفعل وسط الشارع الرئيسي؟” فأجبته: “أنا أقوم بعرضٍ أدائيّ”، وردّ بدوره: “ستجلب لي العار”.
بدأ غارِم يؤدّي عروضه الفنية وحيداً قبل أن تلعب فنون الأداء دوراً في جذب اهتمام الناس إلى أهمية التغيّر المناخي. واتّخذ من الشارع مكاناً لإيصال رسالته في الوقت الذي لم تكن فيه المعارض الفنية موجودةً بعد في المملكة العربية السعودية. قدّم أول عرض أدائي له بعنوان فلورا وفونا (نباتات وحيوانات) حيث لفّ نفسه مع شجرة بغلاف بلاستيكي لمدة ست ساعات مُعتمداً على الأوكسجين الذي تنتجه الشجرة ليسلّط بذلك الضوء على الضّرر الكبير الذي يسبّبه استيراد الأشجار على الأشجار المحلّية.
وُلِد الفنّان الاستثنائي في مدينة خميس مشيط في السعودية، وبدأ حياته المهنية كمقدّمٍ في الجيش السعودي. ويقول حول حياته العسكرية: “ساعدتني تجربتي في الجيش على تكوين معرفةٍ عميقةٍ بما يجري في العالم العربي وعملتُ لاحقاً على تحويل هذه المعرفة إلى أعمالٍ فنية، حيث كنتُ جندياً خلال ساعات العمل وإنساناً عاطفياً يحمل نزعةً فنيةً في المساء. وأشعر أنني كنتُ محظوظاً لقدرتي على المزج بنجاحٍ بين عملي في الجيش وعالم الفنّ”.
وتوجّه غارِم إلى الرياض عندما قرّر بدء مسيرته الفنية مواجهاً صعوبة العثور على استديو، فافتتح عام 2013 استديو غارم الذي كان ورشة فنيةً تستقبل الفنانين الراغبين بالعمل ومعرضاً يفتح أبوابه أمام عشاق الفن. يقول غارِم: ” كان من الصّعب، حسب القانون، استضافة الرجال والنساء معاً في الاستديو، فحوّلت الاستديو إلى منزلي لأتمكّن من ذلك، ونجحتُ في ابتكار فسحةٍ يلتقي فيها الفنانون مع القيّمين الفنّيين وأمناء المتاحف”.
ومن المقرّر إعادة افتتاح استديو غارم ضمن موقعٍ أفضل وبمساحةٍ أكبر وذلك في شهر أكتوبر، حيث سيوفّر فرص تدريب للطلاب بعد تعاونه مع عددٍ من الجامعات السعودية، كما يستثمر غارِم الأموال التي يجنيها من بيع أعماله الفنية في تطوير الاستديو ليواصل بذلك رحلته في دعم ورعاية المواهب الفنّية الشابّة. اشتُهر غارِم بعمله الفنّي التركيبي الذي حمل عنوان رسالة رسول، والذي يمثّل قبّة الصخرة في مدينة القدس تجلس تحتها حمامة بيضاء، وباع هذا العمل في مزاد كريستيز الشهير مُقابل 842 ألف دولار أمريكي (3.16 مليون ريال سعودي) ليكون العمل الفنّي الأغلى مبيعاً في العالم العربي.
ويوضّح غارِم موقفه من صالات العرض: “لا أفضّل أسلوب القائمين على صالات العرض، فعندما يلاحظون إعجاب الجمهور بفكرةٍ ما يطلبون من الفنان ابتكار عملٍ أو اثنين حول هذه الفكرة، لكنّني أعارض هذا الأسلوب ولن تتأثّر أعمالي المستقبلية به.”
ويحرص الفّنان الاستثنائي على ملامسة الخطوط الحمراء بأعماله دون تجاوزها وسط القيود المفروضة على الفنّ في مجتمعه، حيث تمكّن مرةً من إدخال تمثال عارضة أزياء إلى السعودية عبر تفكيكه إلى قطع.
كما يحرص على توسيع معارفه في عالم الفنّ من خلال قراءة الكتب الفنية التي تملأ رفوف مكتبة الاستديو ويقتبس خلال حديثه أقوال فنانين عالميين. يضحك غارِم قائلاً:” استخدمتُ تمثال عارضة الأزياء في أحد عروضي الأدائية. حكمت القيود تاريخ الفنّ والفلسفة في كل مكانٍ من العالم، فمثلاً لُقّب بيكاسو بالفنّان الطليعي أو السابق لأوانه لأنّ عصر النهضة شجّع على التخلّص من القيود.”
ويرى غارِم أن الفنّ يجب أن يكون مصدراً للحوار. حيث كان لهجمات 11 سبتمبر الإرهابية صدىً عميق في نفسه خاصّةً بعد الحديث العالمي عن دور المملكة العربية السعودية وحقيقة أنّ اثنين من الخاطفين كانا زميلين له في مرحلة الدراسة.
ودفعه ذلك إلى تسليط الضوء على أوجه التشابه بين مختلف الناس والثقافات بدلاً من الاختلافات عبر ابتكار عمله الفنّي بعنوان وقفة، والذي يتضمّن خطين متوازيين يمثلان برجي التجارة العالميين. وحول اختيار اسم وقفة لهذا العمل يقول: “أردتُ تمثيل حالة الناس حول العالم الذين توقفوا ساكنين أمام شاشات التلفاز يتابعون الأحداث، وعندما عُرض عملي في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون أكّد الحاضرون أنّهم عاشوا تلك اللحظات متسمّرين أمام شاشاتهم.
كان موقفنا كسعوديّين ضعيفاً، حيث لم تترك لنا وسائل الإعلام فرصةً للدفاع عن أنفسنا. وعندها قرّرتُ إيصال رسالتي إلى العالم عن طريق الفنّ. ونجحت من خلال معرضي في المتحف في التواصل مع الناس بشكلٍ مباشر دون تدخّل وسائل الإعلام، حيث كان هدفي إنشاء حوارٍ بين مختف الشعوب عبر التواصل المباشر بين الفنّان وجمهوره.”
وعن موقفه من تسييس أعماله الفنّية يقول: “لا يركّز الناس على جنسيات فنّانين مثل داميين هِرست أو جيف كونز. لإنّ أهمّ صفات الفنان المعاصر هي التفاعل مع المحيط وتقديم أعمال فنّية تُحاكي الأحداث العالمية والمحلّية إلى جانب حياته اليومية وعلاقاته الاجتماعية، وهذا جزء أساسي من طريق الفنّ يجب على كلّ فنان إدراكه.”
يشعر غارِم بالحماس حول رؤية المملكة العربية السعودية 2030 ويستمرّ في استلهام أعماله الفنّية من البيئة المحيطة داعماً المبادرات الصديقة للبيئة التي تقوم بها الحكومة ومؤمناً بالدور الأساسي الذي يلعبه الفنان في المجتمع. ويقول مبتسماً: “يعرفنا العالم كبلدٍ يقوم اقتصاده على النفط، لكننا سنقدّم اليوم قصصاً جديدةً من ضمنها دعم حكومتنا للمبادرات البيئية.
وسألعب بصفتي فناناً دور صلة الوصل بين الناس والحكومة التي تقوم بخطواتٍ كبيرةٍ نحو تطوير القطاعات الفنّية والثقافية والموسيقية وتعويض النقص في هذه المجالات، فمنذ خمس سنوات لم يكن هناك موسيقيون في شوارع المملكة، والآن تغيّر الوضع تماماً”.
للمزيد من المعلومات حول استديو غارم، يُرجى زيارة الموقع الالكتروني: gharemstudio.com
